أن يخرج رئيس حزب "الكتائب" النائب ​سامي الجميل​ لينتفض ضدّ "صفقة" دُبّرت في مجلس وزراء "استثنائي" تحت عنوان "الهوية البيومترية"، ويصفها بـ"الفضيحة" التي تمّ تمريرها بكلّ "وقاحة"، فأمرٌ طبيعيّ وبديهيّ، لا يحتمل النقاش ولا التأويل، باعتبار أنّ "الشيخ سامي" يكاد "يحتكر" موقع "المعارضة" في العهد الجديد، أباً عن جد.

ولكن، أن يخرج رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ ليفجّر "​الألغام​" بوجه "الصفقة"، مطالبًا بانتخاباتٍ مبكرة تُحرِج من تُحرِج، فأمرٌ يحمل من عناصر "الريبة" ما يتخطّى نغمة "الكيمياء" المفقودة مع رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​، ليعبّر عن "امتعاض" شديد اللهجة من "ثنائية" رئيسي الجمهورية ​ميشال عون​ والحكومة ​سعد الحريري​، يصل برأي البعض لحدّ "التمرّد" عليها...

"قنبلة صوتية"؟!

مع موافقة مجلس الوزراء في الجلسة الاستثنائية التي عقدها يوم الأحد الماضي على تطوير بطاقة الهوية لتصبح بيومترية على أن تُعتمَد في الانتخابات النيابية، بدلاً من ​البطاقة الممغنطة​ التي كان ​قانون الانتخاب​ الجديد قد نصّ على إمكان اعتمادها، اعتقد كثيرون أنّ "نغمة" الانتخابات النيابية المبكرة، التي تمّت إثارتها مؤخّرًا، قد انتهى مفعولها، بل ذهبوا لاعتبار أنّ ما حصل في مجلس الوزراء لم يكن يهدف أصلاً للاصلاح الانتخابيّ بقدر ما كان يهدف لوضع حدّ للنقاش الدائر حول إمكان تقصير ولاية المجلس النيابي، وبالتالي تقريب موعد الانتخابات النيابية.

إلا أنّ المفاجأة تمثّلت في اليوم التالي بإعلان رئيس المجلس النيابي نبيه بري قبوله "التحدي" الذي كان "التيار الوطني الحر" قد وضعه أمامه بشكلٍ غير مباشر، من خلال تقديم مشروع قانون معجّل مكرّر يقضي بتعديل قانون الانتخاب، وتحديدًا الفقرة المتعلّقة بتمديد ولاية المجلس النيابي، لتنتهي في نهاية العام الجاري لا في أيار المقبل، على أن تجري انتخابات مبكرة قبل هذا التاريخ، الأمر الذي صدم العديد من "شركاء" بري في الحكم، الذين "بلع" بعضهم "ألسنتهم" حتى لا يُصوّر رئيس المجلس، من حيث يقصد أو لا يقصد، وكأنّه الوحيد الرافض للتمديد، في حين أنّ الآخرين ساعون له.

ولكن، وأبعد من مفاجأة بري و"المزايدات" التي حملتها بين طيّاتها، فضلاً عن "النكايات" التي أعادت "تحريكها"، خصوصًا بين "​حركة أمل​" و"التيار الوطني الحر"، فإنّ المرء لا يحتاج للكثير من العناء ليستنتج بأنّ الدعوة لانتخابات مبكرة ليست عمليًا أكثر من "قنبلة صوتية" غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، للكثير من الأسباب والحسابات، بدءًا من القانون نفسه، الذي ستتأثر كلّ بنوده ومواده بتغيير موعد الانتخابات، علمًا أنّ مرسوم دعوة ​الهيئات الناخبة​ وحده يجب أن يصدر قبل ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات، كما أنّ هيئة الاشراف على الانتخابات شُكّلت للتو وهي لم تبدأ عملها بعد بانتظار أداء اليمين أمام رئيس الجمهورية، وبالتالي لم تشرع حتى الساعة في حملات التثقيف الانتخابي الضرورية في هذه المرحلة، هذا من دون أن ننسى عدم توافر الجهوزية لا السياسية ولا اللوجستية للانتخابات.

رسالة حازمة...

انطلاقاً ممّا سبق، يصبح واضحًا أنّ دعوة بري لانتخابات مبكرة ليست جدية، ولو جاهر بخلاف ذلك المقرّبون منه، وقالوا أنّه و"حزب الله" على أتمّ الجهوزية لاجراء الانتخابات اليوم قبل الغد، ولو مضى في مشروعه وفق الأطر القانونية والدستورية حتى النهاية، وصولاً حتى إلى طرحه في إحدى الجلسات التشريعية التي ينوي الدعوة إليها في الأسابيع المقبلة. ولعلّ ما هو أوضح من ذلك أيضًا أنّ موقف بري لا يمكن قراءته سوى بوصفه رسالة سياسية حازمة بالغة الدلالة موجّهة بشكل خاص إلى رئيسي الجمهورية العماد ميشال عون والحكومة سعد الحريري، ومعهما وزير الخارجية جبران باسيل رفضًا لإخراجه من المعادلة.

وفي هذا السياق، لا يخفى على أحد أنّ بري ممتعض من التفاهم بين الحريري وباسيل، أو "تحالف الضرورة" كما يصفه بعض المقرّبين منه، وهو يعتبر أنّ أضرار هذا التحالف على البلد أكبر من مكاسبه، هو الذي أدّى مثلاً إلى "تطيير" الانتخابات الفرعيّة الملزمة قانونًا في ​كسروان​ و​طرابلس​، علمًا أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري لم يتردّد في الاعتراف بأنّ ما حصل على خط هذه الانتخابات هو "مخالفة دستورية"، لم يستطع تبريرها سوى بتساؤلات لا طائل منها عن "الأسباب" التي تدفع لاثارة الضجة حولها اليوم وليس في السابق. وأكثر من ذلك، يعتبر بري أنّ "الصفقة" التي تمّ بموجبها الاتفاق على عقد تلزيم بطاقات الهوية البيومترية بالتراضي حصل بمعزلٍ عنه، ومن دون أخذ رأيه، وكأنّ هناك من يريد أن يفرض عليه أمراً واقعاً هو يرفضه، وهذا الأمر لا يحصل للمرّة الأولى، إذ سبقته "صفقات" أخرى، لعلّ أبرزها تلك المتعلّقة بالكهرباء، أو ما يُعرَف بـ"صفقة البواخر"، ما يوحي وكأنّ الحريري وباسيل يتصرّفان في الحكومة على قاعدة "مرّر لي حتى أمرّر لك".

وأبعد من كلّ ذلك، يبقى الأكيد أنّ بري ليس وحيدًا في مواجهة ثلاثية عون والحريري وباسيل، فهو يحظى بمؤازرة العديد من القوى، التي بدأت ترفع الصوت، ولو من خلف الكواليس، ضدّ احتكار هذه الثلاثية للسلطة، بشكلٍ أو بآخر. وتشمل هذه القوى حلفاء بري الثابتين، كـ"حزب الله" الذي لا يتردّد في الوقوف إلى جانب "الأستاذ" رغم تمسّكه بالتفاهم مع "التيار"، و"المردة" الذي لا يحتاج لمن يزايد عليه في الخصومة مع "التيار"، وتحديدًا مع باسيل، وصولاً إلى "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" الذي يشكو إهمال "المستقبل" له، واعتقاده أنّ تحالفه مع "الوطني الحر" يغنيه عنه، علمًا أنّ الكثير يُحكى عن صدّ الحريري للكثير من محاولات التقريب بينه وبين النائب ​وليد جنبلاط​، والتي لم تتعدّ حتى الآن لقاءً يتيمًا لم يترجَم على أرض الواقع. وإلى كلّ هؤلاء، لا تبدو "القوات" بعيدة أبدًا عن جوقة المتضرّرين من تفاهم "التيار" و"المستقبل"، وإن كانت تطمح للالتحاق به، نظرًا لعلاقتها الجيّدة مع الجانبين، وهي قد رفعت الصوت ولا تزال ضدّ "الصفقات" التي استُبعِدت عنها، لدرجة قيل أنّها "نعت" تفاهمها مع "التيار" وهو في مهده، وقد حصدت بنتيجة ذلك إشادةً من رئيس المجلس النيابي نبيه بري نفسه.

"التمرّد" حاصل...

يذكر اللبنانيون جيّدًا كيف توعّد رئيس المجلس النيابي نبيه بري بالالتحقاق بصفوف "المعارضة" قبل تشكيل الحكومة، حتى فرض شروطه.

قد يرى كثيرون أنّ الرجل يعيد اليوم الكرّة لفرض شروطه من جديد، بعدما شعر أنّه في السلطة وخارجها في الوقت نفسه، بسبب "التضييق" عليه من قبل تحالف "المستقبل" و"الوطني الحر".

في كلّ الأحوال، الأكيد أنّ بري وجّه رسالة لكلّ من يعنيه الأمر، وهو ماضٍ بها حتى النهاية، وهو يدرك أنّه، إن لم يكن رابحًا بموجبها، فهو لن يكون خاسرًا أيضًا، بعكس الآخرين...